فصل: فَصْلٌ: شَرَائِطُ الْوُجُوبِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: شَرَائِطُ الْوُجُوبِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَمِنْهَا الْمُطَالَبَةُ بِالنَّقْضِ حَتَّى لَوْ سَقَطَ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ فَعَطِبَ بِهِ شَيْءٌ لَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِتَرْكِ النَّقْضِ الْمُسْتَحَقِّ؛ لِأَنَّ بِهِ يَصِيرُ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسْبِيبِ إلَى الْإِتْلَافِ، وَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِدُونِ الْمُطَالَبَةِ، وَصُورَةُ الْمُطَالَبَةِ: هِيَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْ عَرَضِ النَّاسِ فَيَقُولُ لَهُ: إنَّ حَائِطَكَ هَذَا مَائِلٌ أَوْ مَخُوفٌ فَارْفَعْهُ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ لَزِمَهُ رَفْعُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقُّ الْعَامَّةِ، فَإِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ صَارَ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ سَوَاءٌ كَانَ الَّذِي تَقَدَّمَ إلَيْهِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا حُرًّا أَوْ عَبْدًا بَعْدَ إنْ كَانَ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا بَعْدَ إنْ كَانَ عَاقِلًا، وَقَدْ أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ حَقُّ جَمِيعِ أَهْلِ الدَّارِ، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِإِزَالَةِ سَبَبِ الضَّرَرِ عَنْهُ إلَّا أَنَّهُ لابد مِنْ عَقْلِ الطَّالِبِ وَكَوْنِهِ مَأْذُونًا بِالتَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْمَجْنُونِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الشَّرْعِ، فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، وَيَنْبَغِيَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الطَّلَبِ وَتَفْسِيرُ الْإِشْهَادِ مَا ذَكَره مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ تَقَدَّمْتُ إلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي هَدْمِ حَائِطِهِ، هَذَا وَالْإِشْهَادُ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ لِجَوَازِ أَنْ يُنْكِرَ صَاحِبُ الْحَائِطِ الْمُطَالَبَةَ بِالنَّقْضِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْإِشْهَادِ لِإِثْبَاتِ الطَّلَبِ عِنْدَ الْقَاضِي لَا لِصِحَّةِ الطَّلَبِ فَإِنَّ الطَّلَبَ يَصِحُّ بِدُونِ الْإِشْهَادِ حَتَّى لَوْ اعْتَرَفَ صَاحِبُ الدَّارِ بِالطَّلَبِ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ.
وَكَذَا إذَا أَنْكَرَ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-
وَنَظِيرُهُ مَا قُلْنَا فِي الشُّفْعَةِ: أَنَّ الشَّرْطَ فِيهَا الطَّلَبُ لَا الْإِشْهَاد، وَإِنَّمَا الْإِشْهَادُ لِلْحَاجَةِ إلَى إثْبَاتِ الطَّلَبِ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِنْكَارِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ الْمُشْتَرِيَ بِالطَّلَبِ يَثْبُتُ حَقُّ الشُّفْعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَى الطَّلَبِ وَكَذَا لَوْ جَحَدَ الطَّلَبَ يَثْبُتُ الْحَقُّ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَكَذَا الْإِشْهَادُ فِي بَابِ اللُّقْطَةِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ، وَلَوْ طُولِبَ صَاحِبُ الْحَائِطِ بِالنَّقْضِ فَلَمْ يَنْقُضْ حَتَّى سَقَطَ عَلَى الطَّرِيقِ فَعَثَرَ بِنَقْضِهِ إنْسَانٌ فَعَطِبَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ طُولِبَ بِدَفْعِ النَّقْضِ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ إذَا طُولِبَ بِالرَّفْعِ لَزِمَهُ الرَّفْعُ فَإِذَا لَمْ يَرْفَعْ صَارَ مُتَعَدِّيًا فَيَضْمَنُ مَنْ تَوَلَّدَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُطَالَبْ بِرَفْعِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: يَضْمَنُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا طُولِبَ بِالنَّقْضِ فَلَمْ يَنْقُضْ حَتَّى سَقَطَ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ فَحَصَلَ التَّلَفُ بِسَبَبٍ هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ فَيَضْمَنُ؛ وَلِهَذَا ضَمِنَ إذَا وَقَعَ عَلَى إنْسَانٍ كَذَا إذَا عَطِبَ بِنَقْضِهِ إنْسَانٌ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَائِطَ قَدْ زَالَ عَنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي طُولِبَ فِيهِ لِانْتِقَالِهِ عَنْ مَحِلِّ الْجِنَايَةِ، وَهُوَ الْهَوَاءُ إلَى مَحِلٍّ آخَرَ بِغَيْرِ صُنْعِ صَاحِبِهِ فلابد مِنْ مُطَالَبَةٍ أُخْرَى كَمَنْ وَضَعَ حَجَرًا فِي الطَّرِيقِ فَدَحْرَجَتْهُ الرِّيحُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْوَاضِعِ كَذَا هاهنا بِخِلَافِ مَا إذَا سَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا زَالَ عَنْ مَحِلِّ الْمُطَالَبَةِ، وَهُوَ الْهَوَاءُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى مُطَالَبَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ غَيْرَ نَافِذٍ- فَالْخُصُومَةُ إلَى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ السِّكَّةِ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ حَقُّهُمْ، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وِلَايَةُ التَّقَدُّمِ إلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ، وَإِنْ كَانَ مَيَلَانُ الْحَائِطِ إلَى مِلْكِ رَجُلٍ- فَالْمُطَالَبَةُ بِالنَّقْضِ وَالْإِشْهَادِ إلَى صَاحِبِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ هَوَاءٌ مَلَكَهُ حَقُّهُ، وَقَدْ شَغَلَ الْحَائِطَ حَقُّ صَاحِبِ الْمِلْكِ فَكَانَتْ الْمُطَالَبَةُ بِالتَّفْرِيغِ إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الدَّارِ سَاكِنٌ كَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ فَالْمُطَالَبَةُ وَالْإِشْهَادُ إلَى السَّاكِنِ، فَيُشْتَرَطُ طَلَبُ السَّاكِنِ أَوْ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ السَّاكِنَ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِإِزَالَةِ مَا يَشْغَلُ الدَّارَ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِإِزَالَةِ مَا يُشْغِلُ الْهَوَاءَ أَيْضًا، وَلَوْ طُولِبَ صَاحِبُ الْحَائِطِ بِالنَّقْضِ فَاسْتَأْجَلَ الَّذِي طَالَبَهُ أَوْ اسْتَأْجَلَ الْقَاضِيَ فَأَجَّلَهُ، فَإِنْ كَانَ مَيَلَانُ الْحَائِطِ إلَى الطَّرِيقِ فَالتَّأْجِيلُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مَيَلَانُهُ إلَى دَارِ رَجُلٍ فَأَجَّلَهُ صَاحِبُ الدَّارِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ سَاكِنُ الدَّارِ فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ بِالْحَائِطِ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَقَّ فِي الطَّرِيقِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا طَالَبَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِالنَّقْضِ فَقَدْ تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِالْحَائِطِ لِحَقِّ الْجَمَاعَةِ، فَكَانَ التَّأْجِيلُ وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطًا لِحَقِّ الْجَمَاعَةِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَيَلَانُ إلَى دَارِ إنْسَانٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْحَقَّ لِصَاحِبِ الدَّارِ خَاصَّةً.
وَكَذَلِكَ السَّاكِنُ فَكَانَ التَّأْجِيلُ وَالْإِبْرَاءُ مِنْهُ إسْقَاطًا لِحَقِّ نَفْسِهِ فَيَمْلِكَهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ وَضَعَ رَجُلٌ فِي دَارِ غَيْرِهِ حَجَرًا أَوْ حَفَرَ فِيهَا بِئْرًا أَوْ بَنَى فِيهَا بِنَاءً وَأَبْرَأَهُ صَاحِبُ الدَّارِ مِنْهُ كَانَ بَرِيئًا، وَلَا يَلْزَمُهُ مَا عَطِبَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ سَوَاءٌ عَطِبَ بِهِ صَاحِبُ الدَّارِ أَوْ دَاخِلٌ دَخَلَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ فَيَمْلِكُ إسْقَاطَهُ كَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمُطَالَبُ بِالنَّقْضِ مِمَّنْ يَلِي النَّقْضَ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالنَّقْضِ مِمَّنْ لَا يَلِي النَّقْضَ سَفَهٌ، فَكَانَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا تَصِحُّ مُطَالَبَةُ الْمُسْتَوْدَعِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ وِلَايَةُ النَّقْضِ فَتَصِحُّ مُطَالَبَةُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ النَّقْضِ لِقِيَامِ الْمِلْكِ فَيَنْقُضُ وَيَقْضِيَ الدِّينَ، فَيَصِيرُ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ، وَتَصِحُّ مُطَالَبَةُ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ فِي هَدْمِ حَائِطِ الصَّغِيرِ لِثُبُوتِ وِلَايَةِ النَّقْضِ لَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَنْقُضَا حَتَّى سَقَطَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ بِتَرْكِ النَّقْضِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَى الْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ مُضَافٌ إلَى الصَّبِيِّ لِقِيَامِهِمَا مَقَامَ الصَّبِيِّ، وَالصَّبِيُّ مُؤَاخَذٌ بِأَفْعَالِهِ، فَيَضْمَنُ وَتَتَحَمَّلُ عَنْهُ عَاقِلَتُهُ فِيمَا تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ، وَيَكُونُ فِي مَالِهِ فِيمَا لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ كَالْبَالِغِ سَوَاءٌ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا كَانَ الْحَائِطُ الْمَائِلُ لِجَمَاعَةٍ فَطُولِبَ بَعْضُهُمْ بِالنَّقْضِ فَلَمْ يَنْقُضْ حَتَّى سَقَطَ فَعَطِبَ بِهِ شَيْءٌ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَضْمَنَ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَضْمَنُ الَّذِي طُولِبَ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ تَرَكَ النَّقْضَ الْمُسْتَحَقَّ.
(أَمَّا) الَّذِينَ لَمْ يُطَالَبُوا بِالنَّقْضِ فَظَاهِرٌ (وَإِمَّا) الَّذِي طُولِبَ بِهِ فَلِأَنَّ أَحَدَ الشُّرَكَاءِ لَا يَلِي النَّقْضَ بِدُونِ الْبَاقِينَ: وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُطَالَبَ بِالنَّقْضِ تَرَكَ النَّقْضَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنهُ أَنْ يُخَاصِمَ الشُّرَكَاءَ وَيُطَالِبَهُمْ بِالنَّقْضِ إنْ كَانُوا حُضُورًا، وَإِنْ كَانُوا غُيَّبًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي حَتَّى يَأْمُرَهُ الْقَاضِي بِالنَّقْضِ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَقًّا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْإِمَامُ يَتَوَلَّى ذَلِكَ لَهُمْ فَيَأْمُرُ الْحَاضِرَ بِنَقْضِ نَصِيبِهِ وَنَصِيبِ الْغَائِبِينَ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ- فَقَدْ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ الْمُسْتَحَقِّ، فَيَضْمَنُ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ لَكِنْ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الْحَائِطِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَفِي قَوْلِهِمَا: عَلَيْهِ ضَمَانُ النِّصْفِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أَنْصِبَاءَ الشُّرَكَاءِ الْآخَرِينَ لَمْ يَجِبْ بِهَا ضَمَانٌ، فَكَانَتْ كَنَصِيبِ وَاحِدٍ، كَمَنْ جَرَحَهُ رَجُلٌ، وَعَقَرَهُ سَبْعٌ، وَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ، فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ عَلَى الْجَارِحِ النِّصْفَ؛ لِأَنَّ عَقْرَ السَّبْعِ وَنَهْشَ الْحَيَّةِ لَمْ يَجِبْ بِهِمَا ضَمَانٌ، فَكَانَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِثِقَلِ الْحَائِطِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْنًى مُخْتَلِفًا فِي نَفْسِهِ فَيَضْمَنُ بِمِقْدَارِ نَصِيبِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا قِيَامُ وِلَايَةِ النَّقْضِ وَقْتَ السُّقُوطِ، وَلَا يَكْتَفِي بِثُبُوتِهَا وَقْتَ الْمُطَالَبَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ عِنْدَ السُّقُوطِ كَأَنَّهُ أَسْقَطَهُ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ وِلَايَةُ النَّقْضِ عِنْدَ السُّقُوطِ- لَمْ يَصِرْ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا طُولِبَ بِالنَّقْضِ فَلَمْ يَنْقُضْ حَتَّى بَاعَ الدَّارَ الَّتِي فِيهَا الْحَائِطُ مِنْ إنْسَانٍ وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ ثُمَّ سَقَطَ عَلَى شَيْءٍ، فَعَطِبَ بِهِ- أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِانْعِدَامِ وِلَايَةِ النَّقْضِ وَقْتَ السُّقُوطِ بِخُرُوجِ الْحَائِطِ عَنْ مِلْكِهِ، وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي أَيْضًا لِانْعِدَامِ الْمُطَالَبَةِ فِي حَقِّهِ فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا شَرَعَ جَنَاحًا إلَى الطَّرِيقِ ثُمَّ بَاعَ الدَّارَ مَعَ الْجَنَاحِ ثُمَّ وَقَعَ عَلَى إنْسَانٍ إنَّهُ يَضْمَنُ الْبَائِعَ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ هُنَاكَ عَلَى الْبَائِعِ قُبَيْلَ الْبَيْعِ لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا بِإِشْرَاعِ الْجَنَاحِ، وَالْإِشْرَاعُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَلَا يَتَغَيَّرُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الضَّمَانِ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ الْمُسْتَحَقِّ، وَذَلِكَ عِنْدَ سُقُوطِ الْحَائِطِ، وَقَدْ بَطَلَ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْبَيْعِ، فَلَمْ يُوجَدْ التَّعَدِّي عِنْدَ السُّقُوطِ بِتَرْكِ النَّقْضِ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا طُولِبَ الْأَبُ بِنَقْضِ حَائِطِ الصَّغِيرِ، فَلَمْ يَنْقُضْ حَتَّى مَاتَ الْأَبُ أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ ثُمَّ سَقَطَ الْحَائِطُ إنَّهُ لَا ضَمَانَ فِيهِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْوِلَايَةِ وَقْتَ السُّقُوطِ شَرْطٌ، وَقَدْ بَطَلَتْ بِالْمَوْتِ وَالْبُلُوغِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا): إمْكَانُ النَّقْضِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سُقُوطُ الْحَائِطِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ بِالنَّقْضِ فِي مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ نَقْضُهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِتَرْكِ النَّقْضِ الْوَاجِبِ، وَلَا وُجُوبَ بِدُونِ الْإِمْكَانِ حَتَّى لَوْ طُولِبَ بِالنَّقْضِ فَلَمْ يُفَرِّطْ فِي نَقْضِهِ، وَلَكِنَّهُ ذَهَبَ يَطْلُبُ مَنْ يَنْقُضُهُ، فَسَقَطَ الْحَائِطُ، فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ- لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَمَكَّنُ مِنْ النَّقْضِ لَمْ يَكُنْ بِتَرْكِ النَّقْضِ مُتَعَدِّيًا، فَبَقِيَ حَقُّ الْغَيْرِ حَاصِلًا فِي يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَاهِيَّةِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ وَكَيْفِيَّتِهِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَاهِيَّةِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ وَكَيْفِيَّتِهِ فَالْوَاجِبُ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ بِجِنْسِهَا مِنْ جِنَايَةِ الْحَافِرِ، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ، وَجِنَايَةُ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ وَالنَّاخِسِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْجِنَايَةَ إنْ كَانَتْ عَلَى بَنِي آدَمَ وَكَانَتْ نَفْسًا- فَالْوَاجِبُ بِهَا الدِّيَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مَا دُونَ النَّفْسِ فَالْوَاجِبُ بِهَا الْأَرْشُ فَإِذَا بَلَغَ الْوَاجِبُ بِهَا نِصْفَ عُشْرِ دِيَةِ الذَّكَرِ، وَهُوَ عُشْرُ دِيَةِ الْأُنْثَى فَمَا فَوْقَهُ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَلَا تَتَحَمَّلُ مَا دُونَ ذَلِكَ، وَلَا مَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى غَيْرِ بَنِي آدَمَ بَلْ يَكُونُ فِي مَالِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ إلَّا أَنَّ ظُهُورَ الْمِلْكِ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ فِي الدَّارِ عِنْدَ الْإِنْكَارِ بِحَجَّةٍ مُطْلَقَةٍ، وَهِيَ الْبَيِّنَةُ شَرْطُ تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ، حَتَّى لَوْ أَنْكَرَتْ الْعَاقِلَةُ كَوْنَ الدَّارِ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْحَائِطِ لَا عَقْلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُقِيمَ صَاحِبُ الدَّارِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ كَذَا ذَكَر مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فَقَالَ: لَا تَضْمَنُ الْعَاقِلَةَ حَتَّى يَشْهَدُ الشُّهُودُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: عَلَى التَّقْدِيمِ إلَيْهِ مِنْ سُقُوطِ الْحَائِطِ، وَعَلَى أَنَّ الدَّارَ لَهُ يُرِيدُ بِهِ عِنْدَ الْإِنْكَارِ، أَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الْمِلْكِ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا لَهُ بِظَاهِرِ الْيَدِ لَكِنَّ الظَّاهِرَ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ حَقٌّ عَلَى غَيْرِهِ؛ إذْ هُوَ حُجَّةٌ لِلدَّفْعِ لَا حُجَّةُ الِاسْتِحْقَاقِ لِحَيَاةِ الْمَفْقُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فلابد مِنْ الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةَ بِظَاهِرِ الْيَدِ، وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الشُّفْعَةِ،.
(وَأَمَّا) الشَّهَادَةُ عَلَى الْمُطَالَبَةِ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ شَرْطُ وُجُوبِ الضَّمَانِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ- فلابد مِنْ إثْبَاتِهَا بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْإِنْكَارِ.
(وَأَمَّا) الشَّهَادَةُ عَلَى الْمَوْتِ مِنْ سُقُوطِ الْحَائِطِ فَلِأَنَّ بِهِ يَظْهَرُ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَهُوَ التَّعَدِّي؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ السُّقُوطِ لَا يُعْلَمُ كَوْنَ صَاحِبِ الْحَائِطِ مُتَعَدِّيًا عَلَيْهِ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.

.فِي الْقَسَامَةِ:

هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ قَتْلِ نَفْسٍ عُلِمَ قَاتِلُهَا، فَأَمَّا حُكْمُ نَفْسٍ لَمْ يُعْلَمْ قَاتِلُهَا- فَوُجُوبُ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- وَعِنْدَ مَالِكٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: وُجُوبُ الْقَسَامَةِ وَالْقِصَاصِ، وَالْكَلَامُ فِي الْقَسَامَةِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الْقَسَامَةِ، وَبَيَانِ مَحَلِّهَا، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ، وَفِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَكُونُ إبْرَاءً عَنْ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ أَمَّا تَفْسِيرُ الْقَسَامَةِ، وَبَيَانُ مَحَلِّهَا- فَالْقَسَامَةُ فِي اللُّغَةِ: تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْوَسَامَةِ، وَهُوَ الْحُسْنُ وَالْجَمَالُ، يُقَالُ: فُلَانٌ قَسِيمٌ أَيْ حَسَنٌ جَمِيلٌ، وَفِي صِفَاتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسِيمٌ، وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْقَسَمِ، وَهُوَ الْيَمِينُ إلَّا أَنَّ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ تُسْتَعْمَلُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِسَبَبٍ مَخْصُوصٍ وَعَدَدٍ مَخْصُوصٍ، وَعَلَى شَخْصٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ خَمْسُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِيهَا: بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عِلْمنَا لَهُ قَاتِلًا، فَإِذَا حَلَفُوا يَغْرَمُونَ الدِّيَةَ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ يُسْتَحْلَفُ الْأَوْلِيَاءُ خَمْسِينَ يَمِينًا فَإِذَا حَلَفُوا يُقْتَصُّ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَتَفْسِيرُ اللَّوْثِ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ عَلَامَةُ الْقَتْلِ فِي وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ أَوْ يَكُونَ هُنَاكَ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: إنْ كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ أَيْ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ.
وَكَانَ بَيْنَ دُخُولِهِ الْمَحَلَّةَ وَبَيْنَ وُجُودِهِ قَتِيلًا مُدَّةٌ يَسِيرَةٌ يُقَالُ لِلْوَلِيِّ: عَيِّنْ الْقَاتِلَ، فَإِنْ عَيَّنَ الْقَاتِلَ يُقَالُ لِلْوَلِيِّ احْلِفْ خَمْسِينَ يَمِينًا، فَإِنْ حَلَفَ فَلَهُ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ يُقْتَلُ الْقَاتِلُ الَّذِي عَيَّنَهُ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَفِي قَوْلٍ يُغَرِّمُهُ الدِّيَةَ، فَإِنْ عَدِمَ أَحَدَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا يَحْلِفُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ فَإِذَا حَلَفُوا لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى احْتَجَّا لِوُجُوبِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْمُدَّعِي بِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ قَالَ: «وَجَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ قَتِيلًا فِي قَلِيبِ خَيْبَرَ فَجَاءَ أَخُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ وَعَمَّاهُ حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ عِنْدَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْكُبْرَ الْكُبْرَ فَتَكَلَّمَ أَحَدُ عَمَّيْهِ: إمَّا حُوَيِّصَةُ وَإِمَّا مُحَيِّصَةُ الْكَبِيرُ مِنْهُمَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا وَجَدْنَا عَبْدَ اللَّهِ قَتِيلًا فِي قَلِيبٍ مِنْ قَلِيبِ خَيْبَرَ وَذَكَرَ عَدَاوَةَ الْيَهُودِ لَهُمْ فَقَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَحْلِفُ لَكُمْ الْيَهُودُ خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوهُ فَقَالُوا: كَيْفَ نَرْضَى بِأَيْمَانِهِمْ، وَهُمْ مُشْرِكُونَ فَقَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيُقْسِمُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ فَقَالُوا: كَيْفَ نُقْسِمُ عَلَى مَا لَمْ نَرَهُ فَوَدَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ عِنْدِهِ» وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَرَضَ الْأَيْمَانَ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ فَدَلَّ أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّهُ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي وَجَدْتُ أَخِي قَتِيلًا فِي بَنِي فُلَانٍ فَقَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اجْمَعْ مِنْهُمْ خَمْسِينَ فَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلُوهُ وَلَا عَلِمُوا لَهُ قَاتِلًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ لِي مِنْ أَخِي إلَّا هَذَا؟ فَقَالَ: بَلْ لَكَ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى وُجُوبِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ لَا عَلَى الْمُدَّعِي، وَعَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ مَعَ الْقَسَامَةِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: «وُجِدَ قَتِيلٌ بِخَيْبَرَ فَقَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُخْرُجُوا مِنْ هَذَا الدَّمِ فَقَالَتْ الْيَهُودُ: قَدْ كَانَ وُجِدَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى عَهْدِ سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَضَى فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَاقْضِ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا ثُمَّ يَغْرَمُونَ الدِّيَةَ فَقَالُوا: قَضَيْتَ بِالنَّامُوسِ» أَيْ بِالْوَحْيِ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلَ مَالِكٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَرَّمَهُمْ الدِّيَةَ لَا الْقِصَاصَ، وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْقِصَاصَ لَغَرَّمَهُمْ الْقِصَاصَ لَا الدِّيَةَ وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَكَمَ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ فَطَرَحَهُ عَلَى أَقْرَبِهِمَا وَأَلْزَمَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يُنْقَلْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- فَيَكُونُ إجْمَاعًا.
(وَأَمَّا) حَدِيثُ سَهْلٍ فَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الثُّبُوتِ؛ وَلِهَذَا ظَهَرَ النَّكِيرُ فِيهِ مِنْ السَّلَفِ؛ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَعَاهُمْ إلَى أَيْمَانِ الْيَهُودِ فَقَالُوا: كَيْفَ نَرْضَى بِأَيْمَانِهِمْ، وَهُمْ مُشْرِكُونَ؟ وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى الرَّدِّ لِمَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ مَعَ مَا أَنَّ رِضَا الْمُدَّعِي لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُمْ: يَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ قَالُوا: كَيْفَ نَحْلِفُ عَلَى مَا لَمْ نَشْهَدْ، وَهَذَا أَيْضًا يَجْرِي مَجْرَى الرَّدِّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثُمَّ إنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَكَيْفَ اسْتَخَارَ عَرْضَ الْيَمِينِ عَلَيْهِمْ، وَلَئِنْ ثَبَتَ فَهُوَ مُؤَوَّلٌ، وَتَأْوِيلُهُ: أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: لَا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ فَقَالَ لَهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ أَيْ: أَيَحْلِفُ؟ إذْ الِاسْتِفْهَامُ قَدْ يَكُونُ بِحَذْفِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ- {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} أَيْ أَتُرِيدُونَ كَمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ سَهْلٍ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ عَلَى سَبِيلِ الرَّدِّ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَا، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» جَعَلَ جِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ قِيلَ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ» اسْتَثْنَى الْقَسَامَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَكُونَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْقَسَامَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى يُخَالِفُ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ- فَالْجَوَابُ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَوْ ثَبَتَ فَلَهُ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ مَنْ لَمْ يُدَّعَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِعَيْنِهِ، وَالثَّانِي: الْيَمِينُ كُلُّ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ فَإِنَّهُ تَجِبُ مَعَهَا الدِّيَةُ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
وَإِنَّمَا جَمَعْنَا فِي الْقَسَامَةِ بَيْنَ الْيَمِينِ الْبَتَاتِ وَالْعِلْمِ إلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّ إحْدَى الْيَمِينَيْنِ كَانَتْ عَلَى فِعْلِهِمْ، فَكَانَتْ عَلَى الْبَتَاتِ، وَالْأُخْرَى عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِمْ، فَكَانَتْ عَلَى الْعِلْمِ وَاَللَّهُ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ- أَعْلَمُ فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ فَائِدَةٍ فِي الِاسْتِحْلَافِ عَلَى الْعِلْمِ، وَهُمْ لَوْ عَلِمُوا الْقَاتِلَ فَأَخْبَرُوا بِهِ لَكَانَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُسْقِطُونَ بِهِ الضَّمَانَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَكَانُوا مُتَّهَمِينَ دَافِعِينَ الْغُرْمَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا شَهَادَةَ لِجَارِ الْمَغْنَمِ وَلَا لِدَافِعِ الْمَغْرَمِ»؟ قِيلَ: إنَّمَا اُسْتُحْلِفُوا عَلَى الْعِلْمِ إتْبَاعًا لِلسَّنَةِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ هَكَذَا وَرَدَتْ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ فَاتَّبَعْنَا السُّنَّةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَعْقِلَ فِيهِ الْمَعْنَى، ثُمَّ فِيهِ فَائِدَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ عَبْدًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَيُقِرُّ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ صَحِيحٌ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْفَعْهُ أَوْ أَفْدِهِ وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عَنْ غَيْرِهِ، فَكَانَ التَّحْلِيفُ عَلَى الْعِلْمِ مُفِيدًا، وَجَائِزٌ أَنْ يُقِرَّ عَلَى عَبْدِ غَيْرِهِ، وَيُصَدِّقَهُ مَوْلَاهُ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عَنْ غَيْرِهِ، فَكَانَ مُفِيدًا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ التَّحْلِيفُ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ ثُمَّ بَقِيَ هَذَا الْحُكْمُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْ الْحَالَيْنِ عَبْدٌ كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «كَانَ يَرْمُلُ فِي الطَّوَافِ» إظْهَارًا لِلْجَلَادَةِ وَالْقُوَّةِ مِرْآة لِلْكَفَرَةِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَظْهَرَ الْيَوْمَ الْجَلَادَةَ مِنْ نَفْسِهِ» ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ الْيَوْمُ ثُمَّ بَقِيَ الرَّمَلُ سَنَةً فِي الطَّوَافِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَرْمُلُ فِي الطَّوَافِ، وَيَقُولُ مَا أَهُزُّ كَتِفِي، وَلَا أَحَدًا رَأَيْتُهُ لَكِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ كَذَا هَذَا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَمَرَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ يَلْزَمُهُ فِي مَالِهِ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا عَلِمْتَ لَهُ قَاتِلًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: عَلِمْتَ لَهُ قَاتِلًا، وَهُوَ الصَّبِيُّ الَّذِي أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ لَكَانَ حَاصِلُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عَنْ غَيْرِهِ، فَكَانَ مُفِيدًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.